فصل: سورة النجم:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرآن العظيم (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (44- 49):

{وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ (44) فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ (45) يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (46) وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (47) وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (48) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ (49)}
يقول تعالى مخبرا عن المشركين بالعناد والمكابرة للمحسوس: {وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا يَقُولُوا} أي: عليهم يعذبون به، لما صدقوا ولما أيقنوا، بل يقولون: هذا {سَحَابٌ مَرْكُومٌ} أي: متراكم. وهذه كقوله تعالى: {وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ. لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ} [الحجر: 14، 15]. قال الله تعالى: {فذرهم} أي: دعهم- يا محمد- {حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ}، وذلك يوم القيامة، {يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا} أي: لا ينفعهم كيدهم ومكرهم الذي استعملوه في الدنيا، لا يُجدي عنهم يوم القيامة شيئا، {وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ}
ثم قال: {وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ} أي: قبل ذلك في الدار الدنيا، كقوله: {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الأدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الأكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [السجدة: 21]، ولهذا قال: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} أي: نعذبهم في الدنيا، ونبتليهم فيها بالمصائب، لعلهم يرجعون وينيبون، فلا يفهمون ما يراد بهم، بل إذا جلي عنهم مما كانوا فيه، عادوا إلى أسوأ ما كانوا عليه، كما جاء في بعض الأحاديث: «إن المنافق إذا مرض وعوفي مثله في ذلك كمثل البعير، لا يدري فيما عقلوه ولا فيما أرسلوه». وفي الأثر الإلهي: كم أعصيك ولا تعاقبني؟ قال الله: يا عبدي، كم أعافيك وأنت لا تدري؟
وقوله: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} أي: اصبر على أذاهم ولا تبالهم، فإنك بمرأى منا وتحت كلاءتنا، والله يعصمك من الناس.
وقوله: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ} قال الضحاك: أي إلى الصلاة: سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك.
وقد روي مثله عن الربيع بن أنس، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وغيرهما.
وروى مسلم في صحيحه، عن عمر أنه كان يقول هذا في ابتداء الصلاة.
ورواه أحمد وأهل السنن، عن أبي سعيد وغيره، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول ذلك.
وقال أبو الجوزاء: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ} أي: من نومك من فراشك. واختاره ابن جرير: ويتأيد هذا القول بما رواه الإمام أحمد:
حدثنا الوليد بن مسلم، حدثنا الأوزاعي، حدثني عُمَير بن هانئ، حدثني جنادة بن أبي أمية، حدثنا عبادة بن الصامت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من تعار من الليل فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير. سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله، ثم قال: رب اغفر لي- أو قال: ثم دعا- استجيب له، فإن عزم فتوضأ، ثم صلى تقبلت صلاته».
وأخرجه البخاري في صحيحه، وأهل السنن، من حديث الوليد بن مسلم، به.
وقال ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ} قال: من كل مجلس.
وقال الثوري، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ} قال: إذا أراد الرجل أن يقوم من مجلسه قال: سبحانك اللهم وبحمدك.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا أبو النضر إسحاق بن إبراهيم الدمشقي، حدثنا محمد ابن شعيب، أخبرني طلحة بن عمرو الحضرمي، عن عطاء بن أبي رباح؛ أنه حدثه عن قول الله: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ} يقول: حين تقوم من كل مجلس، إن كنت أحسنت ازددت خيرا، وإن كان غير ذلك كان هذا كفارة له.
وقد قال عبد الرزاق في جامعه: أخبرنا معمر، عن عبد الكريم الجَزَرِي، عن أبي عثمان الفقير؛ أن جبريل علم النبي صلى الله عليه وسلم إذا قام من مجلسه أن يقول: سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك. قال معمر: وسمعت غيره يقول: هذا القول كفارة المجالس. وهذا مرسل.
وقد وردت أحاديث مسندة من طرق- يقوي بعضها بعضا- بذلك، فمن ذلك حديث ابن جُرَيْج، عن سُهَيْل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من جلس في مجلس فكثر فيه لغطه فقال قبل أن يقوم من مجلسه: سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك، إلا غفر له ما كان في مجلسه ذلك».
رواه الترمذي- وهذا لفظه- والنسائي في اليوم والليلة، من حديث ابن جريج.
وقال الترمذي: حسن صحيح. وأخرجه الحاكم في مستدركه وقال: إسناد على شرط مسلم، إلا أن البخاري علله.
قلت: علله الإمام أحمد، والبخاري، ومسلم، وأبو حاتم، وأبو زُرَعة، والدارقطني، وغيرهم. ونسبوا الوهم فيه إلى ابن جُرَيْج. على أن أبا داود قد رواه في سننه من طريق غير ابن جريج إلى أبي هريرة، رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه ورواه أبو داود- واللفظ له- والنسائي، والحاكم في المستدرك، من طريق الحجاج بن دينار، عن هاشم عن أبي العالية، عن أبي بَرْزَة الأسلمي قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول بأخرة إذا أراد أن يقوم من المجلس: «سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك». فقال رجل: يا رسول الله، إنك لتقول قولا ما كنت تقوله فيما مضى؟! قال: «كفارة لما يكون في المجلس».
وقد روي مرسلا عن أبي العالية، والله أعلم.
وهكذا رواه النسائي والحاكم، من حديث الربيع بن أنس، عن أبي العالية، عن رافع بن خَدِيج، عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله سواء وروي مرسلا أيضا، والله أعلم.
وكذا رواه أبو داود عن عبد الله بن عمرو؛ أنه قال: «كلمات لا يتكلم بهن أحد في مجلسه عند قيامه ثلاث مرات، إلا كفر بهن عنه، ولا يقولهن في مجلس خير ومجلس ذكر، إلا ختم له بهن كما يختم بالخاتم على الصحيفة: سبحانك اللهم وبحمدك، لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك» وأخرجه الحاكم من حديث أم المؤمنين عائشة، وصححه، ومن رواية جُبَير بن مطعم ورواه أبو بكر الإسماعيلي عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، كلهم عن النبي صلى الله عليه وسلم. وقد أفردت لذلك جزءا على حدة بذكر طرقه وألفاظه وعلله، وما يتعلق به، ولله الحمد والمنة.
وقوله: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ} أي: اذكره واعبده بالتلاوة والصلاة في الليل، كما قال: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء: 79].
وقوله: {وَإِدْبَارَ النُّجُومِ} قد تقدم في حديث ابن عباس أنهما الركعتان اللتان قبل صلاة الفجر، فإنهما مشروعتان عند إدبار النجوم، أي: عند جنوحها للغيبوبة.
وقد روى في حديث ابن سيلان، عن أبي هريرة مرفوعا: «لا تَدَعُوهما، وإن طردتكم الخيل». يعني: ركعتي الفجر رواه أبو داود. ومن هذا الحديث حكي عن بعض أصحاب الإمام أحمد القول بوجوبهما، وهو ضعيف لحديث: «خمس صلوات في اليوم والليلة». قال: هل علي غيرها؟ قال: «لا إلا أن تطوع» وقد ثبت في الصحيحين عن عائشة، رضي الله عنها، أنها قالت: لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم على شيء من النوافل أشد تعاهدًا منه على ركعتي الفجر وفي لفظ لمسلم: «ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها».
آخر تفسير سورة الطور والله أعلم.

.سورة النجم:

وهي مكية.
قال البخاري: حدثنا نصر بن علي، أخبرني أبو أحمد، حدثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن الأسود بن يزيد، عن عبد الله قال: أولُ سورة أنزلت فيها سَجْدة: {والنَّجم}، قال: فسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وسجد من خلفه، إلا رجلا رأيته أخذ كفًّا من تُرَاب فسجد عليه، فرأيته بعد ذلك قُتِل كافرًا، وهو أمية بن خَلَف.
وقد رواه البخاري أيضا في مواضع، ومسلم، وأبو داود، والنسائي، من طرق، عن أبي إسحاق، به. وقوله في الممتنع: إنه أمية بن خلف في هذه الرواية مشكل، فإنه قد جاء من غير هذه الطريق أنه عتبة بن ربيعة.
بسم الله الرحمن الرحيم

.تفسير الآيات (1- 4):

{وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2) وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى (4)}.
قال الشعبي وغيره: الخالق يُقسِم بما شاء من خَلْقه، والمخلوق لا ينبغي له أن يقسم إلا بالخالق. رواه ابن أبي حاتم.
واختلف المفسرون في معنى قوله تعالى: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} فقال ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد: يعني بالنجم: الثُّريَّا إذا سقطت مع الفجر.
وكذا رُوي عن ابن عباس، وسفيان الثوري. واختاره ابن جرير. وزعم السدي أنها الزهرة.
وقال الضحاك: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} إذا رُمي به الشياطين. وهذا القول له اتجاه.
وروى الأعمش، عن مجاهد في قوله: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} يعني: القرآن إذا نزل. وهذه الآية كقوله تعالى: {فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ. وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ. إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ. فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ. لا يَمَسُّهُ إِلا الْمُطَهَّرُونَ. تَنزيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الواقعة: 75- 80].
وقوله: {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} هذا هو المقسم عليه، وهو الشهادة للرسول، صلوات الله وسلامه عليه، بأنه بار راشد تابع للحق، ليس بضال، وهو: الجاهل الذي يسلك على غير طريق بغير علم، والغاوي: هو العالم بالحق العادل عنه قصدًا إلى غيره، فنزه الله سبحانه وتعالى رسوله وشَرْعَه عن مشابهة أهل الضلال كالنصارى وطرائق اليهود، وعن علم الشيء وكتمانه والعمل بخلافه، بل هو صلوات الله وسلامه عليه، وما بعثه الله به من الشرع العظيم في غاية الاستقامة والاعتدال والسداد؛ ولهذا قال: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} أي: ما يقول قولا عن هوى وغرض، {إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى} أي: إنما يقول ما أمر به، يبلغه إلى الناس كاملا موفَّرًا من غير زيادة ولا نقصان، كما رواه الإمام أحمد.
حدثنا يزيد، حدثنا حَرِيز بن عثمان، عن عبد الرحمن بن مَيْسَرَة، عن أبي أمامة؛ أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ليدخلنّ الجنة بشفاعة رجل ليس بنبي مثلُ الحيين- أو: مثل أحد الحيين- رَبِيعة ومُضَر». فقال رجل: يا رسول الله، أو ما ربيعة من مضر؟ قال: «إنما أقول ما أقول».
وقال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن سعيد، عن عُبَيد الله بن الأخنس، أخبرنا الوليد بن عبد الله، عن يوسف بن مَاهَك، عن عبد الله بن عمرو قال: كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم أريد حفظه، فنهتني قريش فقالوا: إنك تكتب كل شيء تسمعه من رسول الله، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بشر، يتكلم في الغضب. فأمسكتُ عن الكتاب، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: «اكتب، فوالذي نفسي بيده، ما خرج مني إلا حق».
ورواه أبو داود عن مُسَدَّد وأبي بكر بن أبي شيبة، كلاهما عن يحيى بن سعيد القَطَّان، به.
وقال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا أحمد بن منصور، حدثنا عبد الله بن صالح، حدثنا الليث، عن ابن عَجْلان، عن زيد بن أسلم، عن أبي صالح، عن أبي هُرَيرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما أخبرتكم أنه الذي من عند الله، فهو الذي لا شَكّ فيه». ثم قال: لا نعلمه يُروَى إلا بهذا الإسناد.
وقال الإمام أحمد: حدثنا يونس، حدثنا ليث، عن محمد، عن سعيد بن أبي سعيد، عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا أقول إلا حقا». قال بعض أصحابه: فإنك تداعبنا يا رسول الله؟ قال: «إني لا أقول إلا حقا».

.تفسير الآيات (5- 18):

{عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى (6) وَهُوَ بِالأفُقِ الأعْلَى (7) ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9) فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10) مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11) أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى (12) وَلَقَدْ رَآهُ نزلَةً أُخْرَى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14) عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى (15) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى (16) مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى (17) لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى (18)}.
يقول تعالى مخبرًا عن عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم أنه عَلَّمه الذي جاء به إلى الناس {شَدِيدُ الْقُوَى}، وهو جبريل، عليه السلام، كما قال: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ. ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ. مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ} [التكوير: 19- 21].
وقال هاهنا: {ذُو مِرَّةٍ} أي: ذو قوة. قاله مجاهد، والحسن، وابن زيد.
وقال ابن عباس: ذو منظر حسن.
وقال قتادة: ذو خَلْق طويل حسن.
ولا منافاة بين القولين؛ فإنه، عليه السلام، ذو منظر حسن، وقوة شديدة. وقد ورد في الحديث الصحيح من رواية أبي هريرة وابن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تحل الصدقة لغنيٍّ، ولا لِذِي مرّة سَوِيّ».
وقوله: {فَاسْتَوَى} يعني: جبريل، عليه السلام. قاله مجاهد والحسن وقتادة، والربيع بن أنس.
{وَهُوَ بِالأفُقِ الأعْلَى} يعني: جبريل، استوى في الأفق الأعلى. قاله عكرمة وغير واحد. قال عكرمة: والأفق الأعلى: الذي يأتي منه الصبح.
وقال مجاهد: هو مطلع الشمس.
وقال قتادة: هو الذي يأتي منه النهار.
وكذا قال ابن زيد، وغيرهم.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زُرْعَة، حدثنا مُصَرِّف بن عمرو اليامي أبو القاسم، حدثنا عبد الرحمن بن محمد بن طلحة بن مصرف، حدثني أبي، عن الوليد- هو ابن قيس- عن إسحاق بن أبي الكَهْتَلَة أظنه ذكره عن عبد الله بن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم ير جبريل في صورته إلا مرتين، أما واحدة فإنه سأله أن يراه في صورته فسد الأفق. وأما الثانية فإنه كان معه حيث صعد، فذلك قوله: {وَهُوَ بِالأفُقِ الأعْلَى}.
وقد قال ابن جرير هاهنا قولا لم أره لغيره، ولا حكاه هو عن أحد، وحاصله: أنه ذهب إلى أن المعنى: {فَاسْتَوَى} أي: هذا الشديد القوى ذو المرة هو ومحمد صلى الله عليهما وسلم {بِالأفُقِ الأعْلَى} أي: استويا جميعا بالأفق، وذلك ليلة الإسراء كذا قال، ولم يوافقه أحد على ذلك. ثم شرع يوجه ما قال من حيث العربية فقال: وهذا كقوله تعالى: {أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآبَاؤُنَا} [النمل: 67]، فعطف بالآباء على المكنّى في {كنا} من غير إظهار نحن، فكذلك قوله: {فَاسْتَوَى. وَهُوَ} قال: وذكر الفراء عن بعض العرب أنه أنشده:
ألم تَرَ أنّ النبعَ يَصْلُبُ عُودُه ** ولا يَسْتَوي والخرْوعُ المُتَقصِّفُ

وهذا الذي قاله من جهة العربية متجه، ولكن لا يساعده المعنى على ذلك؛ فإن هذه الرؤية لجبريل لم تكن ليلة الإسراء، بل قبلها، ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم في الأرض، فهبط عليه جبريل، عليه السلام، وتدلى إليه، فاقترب منه وهو على الصورة التي خلقه الله عليها، له ستمائة جناح، ثم رآه بعد ذلك نزلة أخرى عند سدرة المنتهى، يعني ليلة الإسراء، وكانت هذه الرؤية الأولى في أوائل البعثة بعد ما جاءه جبريل، عليه السلام، أول مرة، فأوحى الله إليه صدر سورة اقرأ، ثم فتر الوحي فترة ذهب النبي صلى الله عليه وسلم فيها مرارا ليتردى من رؤوس الجبال، فكلما هَمّ بذلك ناداه جبريل من الهواء: «يا محمد، أنت رسول الله حقا، وأنا جبريل». فيسكن لذلك جأشه، وتقر عينه، وكلما طال عليه الأمر عاد لمثلها، حتى تَبَدّى له جبريل ورسول الله صلى الله عليه وسلم في الأبطح في صورته التي خلقه الله عليها، له ستمائة جناح قد سد عُظْم خلقه الأفق، فاقترب منه وأوحى إليه عن الله، عز وجل، ما أمره به، فعرف عند ذلك عظمة المَلَك الذي جاءه بالرسالة، وجلالة قَدْره، وعلوّ مكانته عند خالقه الذي بعثه إليه. فأما الحديث الذي رواه الحافظ أبو بكر البزار في مسنده حيث قال:
حدثنا سلمة بن شَبِيب، حدثنا سعيد بن منصور، حدثنا الحارث بن عبيد، عن أبي عمران الجَوْني، عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بينا أنا قاعد إذ جاء جبريل، عليه السلام، فوَكَز بين كتفي، فقمت إلى شجرة فيها كَوَكْرَي الطير، فقعد في أحدهما وقعدت في الآخر. فَسَمَت وارتفعت حتى سَدّت الخافقين وأنا أقلب طرفي، ولو شئت أن أمس السماء لمسست، فالتفت إلي جبريل كأنه حلْس لاطٍ، فعرفتُ فضل علْمه بالله علي. وفُتِح لي بابٌ من أبواب السماء ورأيت النور الأعظم، وإذا دون الحجاب رفرفة الدر والياقوت. وأوحى إلي ما شاء الله أن يوحي».
ثم قال البزار: لا يرويه إلا الحارث بن عبيد، وكان رجلا مشهورا من أهل البصرة.
قلت: الحارث بن عُبَيد هذا هو أبو قدامة الإيادي، أخرج له مسلم في صحيحه إلا أن ابن معين ضعَّفه، وقال: ليس هو بشيء.
وقال الإمام أحمد: مضطرب الحديث.
وقال أبو حاتم الرازي: كتب حديثه ولا يحتج به.
وقال ابن حبان: كَثُر وَهَمه فلا يجوز الاحتجاج به إذا انفرد. فهذا الحديث من غرائب رواياته، فإن فيه نكارة وغرابة ألفاظ وسياقًا عجيبا، ولعله منام، والله أعلم.
وقال الإمام أحمد: حدثنا حجاج، حدثنا شريك، عن عاصم، عن أبي وائل، عن عبد الله قال: رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل في صورته وله ستمائة جناح، كل جناح منها قد سَدّ الأفق، يسقط من جناحه من التهاويل والدر والياقوت ما الله به عليم.
انفرد به أحمد.
وقال أحمد: حدثنا يحيى بن آدم، حدثنا أبو بكر بن عياش، عن إدريس بن مُنَبِّه، عن وهب بن منبه، عن ابن عباس قال: سأل النبي صلى الله عليه وسلم جبريل أن يراه في صورته، فقال: ادع ربك. فدعا ربه، عز وجل، فطلع عليه سواد من قبل المشرق، فجعل يرتفع وينتشر، فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم صعِق، فأتاه فَنَعَشَه ومسح البزاق عن شِدْقه.
انفرد به أحمد. وقد رواه ابن عساكر في ترجمة عتبة بن أبي لهب، من طريق محمد بن إسحاق، عن عثمان بن عروة بن الزبير، عن أبيه، عن هَبَّار بن الأسود قال: كان أبو لهب وابنه عتبة قد تجهزا إلى الشام، فتجهزت معهما، فقال ابنه عتبة: والله لأنطلقن إلى محمد ولأوذينه في ربه، سبحانه، فانطلق حتى أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا محمد، هو يكفر بالذي دنى فتدلى، فكان قاب قوسين أو أدنى. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «اللهم ابعث إليه كلبا من كلابك». ثم انصرف عنه فرجع إلى أبيه فقال: يا بني، ما قلت له؟ فذكر له ما قال له، قال: فما قال لك؟ قال: قال: «اللهم سلط عليه كلبا من كلابك» قال: يا بني، والله ما آمنُ عليك دُعاءه. فسرنا حتى نزلنا الشراة، وهي مأْسَدَة، ونزلنا إلى صَوْمَعة راهب، فقال الراهب: يا معشر العرب، ما أنزلكم هذه البلاد فإنها تسرح الأسْدُ فيها كما تسرح الغنم؟ فقال لنا أبو لهب: إنكم قد عرفتم كبر سني وحقي، وإن هذا الرجل قد دعا على ابني دعوةً- والله- ما آمنها عليه، فاجمعوا متاعكم إلى هذه الصومعة، وافرشوا لابني عليها، ثم افرشوا حولها. ففعلنا، فجاء الأسد فَشَمّ وجوهنا، فلما لم يجد ما يريد تَقَبّض، فوثب، فإذا هو فوق المتاع، فشم وجهه ثم هزمه هَزْمة فَفَضخ رأسه. فقال أبو لهب: قد عرفت أنه لا ينفلت عن دعوة محمد.
وقوله: {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} أي: فاقترب جبريل إلى محمد لما هبط عليه إلى الأرض، حتى كان بينه وبين محمد صلى الله عليه وسلم قاب قوسين أي: بقدرهما إذا مُدّا. قاله مجاهد، وقتادة.
وقد قيل: إن المراد بذلك بُعدُ ما بين وتر القوس إلى كبدها.
وقوله: {أَوْ أَدْنَى} قد تقدم أن هذه الصيغة تستعمل في اللغة لإثبات المخبر عنه ونفي ما زاد عليه، كقوله: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} [البقرة: 74]، أي: ما هي بألين من الحجارة، بل هي مثلها أو تزيد عليها في الشدة والقسوة.
وكذا قوله: {يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً} [النساء: 77]، وقوله: {وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} [الصافات: 147]، أي: ليسوا أقل منها بل هم مائة ألف حقيقة، أو يزيدون عليها. فهذا تحقيق للمخبر به لا شك ولا تردد، فإن هذا ممتنع هاهنا، وهكذا هذه الآية: {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى}.
وهذا الذي قلناه من أن هذا المقترب الداني الذي صار بينه وبين محمد صلى الله عليه وسلم، إنما هو جبريل، عليه السلام، هو قول أم المؤمنين عائشة، وابن مسعود، وأبي ذر، وأبي هريرة، كما سنورد أحاديثهم قريبا إن شاء الله.
وروى مسلم في صحيحه، عن ابن عباس أنه قال: «رأى محمد ربه بفؤاده مرتين». فجعل هذه إحداهما. وجاء في حديث شريك بن أبي نمر، عن أنس في حديث الإسراء: «ثم دنا الجبار رب العزة فتدلى» ولهذا تكلم كثير من الناس في متن هذه الرواية، وذكروا أشياء فيها من الغرابة، فإن صح فهو محمول على وقت آخر وقصة أخرى، لا أنها تفسير لهذه الآية؛ فإن هذه كانت ورسول الله صلى الله عليه وسلم في الأرض لا ليلة الإسراء؛ ولهذا قال بعده: {وَلَقَدْ رَآهُ نزلَةً أُخْرَى. عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى}، فهذه هي ليلة الإسراء والأولى كانت في الأرض.
وقد قال ابن جرير: حدثنا محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب، حدثنا عبد الواحد بن زياد، حدثنا سليمان الشيباني، حدثنا زر بن حبيش قال: قال عبد الله بن مسعود في هذه الآية: {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى}، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «رأيت جبريل له ستمائة جناح».
وقال ابن وهب: حدثنا ابن لَهِيعة، عن أبي الأسود، عن عُرْوَة، عن عائشة قالت: كان أولَ شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه رأى في منامه جبريل بأجياد، ثم إنه خرج ليقضي حاجته فصرخ به جبريل: يا محمد، يا محمد. فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم يمينا وشمالا فلم ير شيئًا- ثلاثا- ثم رفع بصره فإذا هو ثان إحدى رجليه مع الأخرى على أفق السماء فقال: يا محمد، جبريل، جبريلُ- يُسكّنه- فهرب النبي صلى الله عليه وسلم حتى دخل في الناس، فنظر فلم ير شيئًا، ثم خرج من الناس، ثم نظر فرآه، فدخل في الناس فلم ير شيئًا، ثم خرج فنظر فرآه، فذلك قول الله عز وجل: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى. مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} إلى قوله: {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى} يعني جبريل إلى محمد، {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى}: ويقولون: القاب نصف الأصبع.
وقال بعضهم: ذراعين كان بينهما.
رواه ابن جرير وابن أبي حاتم، من حديث ابن وهب. وفي حديث الزهري عن أبي سلمة، عن جابر شاهد لهذا.
وروى البخاري عن طَلْق بن غنام، عن زائدة، عن الشيباني قال: سألت زرًّا عن قوله: {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى. فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} قال: حدثنا عبد الله أن محمدا صلى الله عليه وسلم رأى جبريل له ستمائة جناح.
وقال ابن جرير: حدثني ابن بَزِيع البغدادي، حدثنا إسحاق بن منصور، حدثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن عبد الرحمن بن يزيد، عن عبد الله: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} قال: رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل عليه حلتا رفرف، قد ملأ ما بين السماء والأرض.
فعلى ما ذكرناه يكون قوله: {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} معناه: فأوحى جبريل إلى عبد الله محمد ما أوحى. أو: فأوحى الله إلى عبده محمد ما أوحى بواسطة جبريل وكلا المعنيين صحيح، وقد ذُكر عن سعيد بن جبير في قوله: {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى}، قال: أوحى إليه: «ألم أجدك يتيما» {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} [الشرح: 4].
وقال غيره: أوحى الله إليه أن الجنة محرمة على الأنبياء حتى تدخلها، وعلى الأمم حتى تدخلها أمتك.
وقوله: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى. أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى} قال مسلم: حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا وَكيع، حدثنا الأعمش، عن زياد بن حُصَين، عن أبي العالية، عن ابن عباس: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى}، {وَلَقَدْ رَآهُ نزلَةً أُخْرَى} قال: رآه بفؤاده مرتين.
وكذا رواه سِمَاك، عن عكرمة، عن ابن عباس، مثله.
وكذا قال أبو صالح والسّدي وغيرهما: إنه رآه بفؤاده مرتين أو مرة، وقد خالفه ابن مسعود وغيره، وفي رواية عنه أنه أطلق الرؤية، وهي محمولة على المقيدة بالفؤاد. ومن روى عنه بالبصر فقد أغرب، فإنه لا يصح في ذلك شيء عن الصحابة، رضي الله عنهم، وقولُ البغوي في تفسيره: وذهب جماعة إلى أنه رآه بعينه، وهو قول أنس والحسنُ وعكرمة. فيه نظر، والله أعلم.
وقال الترمذي: حدثنا محمد بن عمرو بن نَبْهان بن صفوان، حدثنا يحيى بن كثير العنبري، عن سَلْم بن جعفر، عن الحكم بن أبان، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: رأى محمد ربه. قلت: أليس الله يقول: {لا تُدْرِكُهُ الأبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأبْصَارَ} [الأنعام: 103] قال: ويحك! ذاك إذا تَجَلى بنوره الذي هو نُورُه، وقد رأى ربه مرتين.
ثم قال: حسن غريب.
وقال أيضا: حدثنا ابن أبي عمر، حدثنا سفيان، عن مجالد، عن الشعبي قال: لقي ابن عباس كعبًا بعرفة، فسأله عن شيء فكَبَّر حتى جاوبته الجبال، فقال ابن عباس: إنا بنو هاشم فقال كعب: إن الله قسم رؤيته وكلامه بين محمد وموسى، فكلم موسى مرتين ورآه محمد مرتين.
وقال مسروق: دخلتُ على عائشة فقلت: هل رأى محمد ربه؟ فقالت: لقد تكلمت بشيء قَفَّ له شعري. فقلت: رُوَيدًا، ثم قرأتُ: {لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى}
فقالت: أين يُذهَبُ بك؟ إنما هو جبريل من أخبرك أن محمدا رأى ربه أو كتم شيئا مما أمرَ به، أو يعلم الخمس التي قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنزلُ الْغَيْثَ} [لقمان: 34]، فقد أعظم الفرية، ولكنه رأى جبريل، لم يره في صورته إلا مرتين، مرة عند سدرة المنتهى ومرة في جياد، وله ستمائة جناح قد سد الأفق.
وقال النسائي: حدثنا إسحاق بن إبراهيم، حدثنا معاذ بن هشام، حدثني أبي، عن قتادة، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: أتعجبون أن تكون الحُلَّة لإبراهيم، والكلام لموسى، والرؤية لمحمد، عليهم السلام؟!.
وفي صحيح مسلم، عن أبي ذر قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: هل رأيتَ ربك؟ فقال: «نورٌ أنّى أراه».
وفي رواية: «رأيت نورا».
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا أبو خالد، عن موسى بن عُبيدةَ، عن محمد بن كعب قال: قالوا: يا رسول الله، رأيت ربك؟ قال: «رأيته بفؤادي مرتين» ثم قرأ: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى}.
ورواه ابنُ جرير، عن ابن حُمَيد، عن مِهْرَان، عن موسى بن عبيدة، عن محمد بن كعب، عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: قلنا: يا رسول الله، هل رأيت ربك؟ قال: «لم أره بعيني، ورأيته بفؤادي مرتين» ثم تلا {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى}.
ثم قال ابن أبي حاتم: وحدثنا الحسن بن محمد بن الصباح، حدثنا محمد بن عبد الله الأنصاري، أخبرني عَبَّاد بن منصور قال: سألت عكرمة: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى}، فقال عكرمة: تريد أن أخبرك أنه قد رآه؟ قلت: نعم. قال: قد رآه، ثم قد رآه. قال: فسألت عنه الحسن فقال: رأى جلاله وعَظَمته ورِداءَه.
وحدثنا أبي، حدثنا محمد بن مجاهد، حدثنا أبو عامر العقدي، أخبرنا أبو خلدة، عن أبي العالية قال: سُئِل رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل رأيت ربك؟ قال: «رأيت نهرا، ورأيت وراء النهر حجابا، ورأيت وراء الحجاب نورا لم أر غير».
وذلك غريب جدا، فأما الحديث الذي رواه الإمام أحمد:
حدثنا أسود بن عامر، حدثنا حماد بن سلمة، عن قتادة، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «رأيت ربي عز وجل».
فإنه حديث إسناده على شرط الصحيح، لكنه مختصر من حديث المنام كما رواه الإمام أحمد أيضا:
حدثنا عبد الرزاق، حدثنا مَعْمَر، عن أيوب، عن أبي قِلابة عن ابن عباس؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أتاني ربي الليلة في أحسن صورة- أحسبه يعني في النوم- فقال: يا محمد، أتدري فيم يختصم الملأ الأعلى؟» قال: «قلت: لا. فوضع يده بين كتفي حتى وجدت بَرْدَها بين ثدييّ- أو قال: نَحْرِي- فعلمت ما في السموات وما في الأرض، ثم قال: يا محمد، هل تدري فيم يختصم الملأ الأعلى؟» قال: «قلت: نعم، يختصمون في الكفارات والدرجات». قال: «وما الكفارات والدرجات؟» قال: «قلت: المكث في المساجد بعد الصلوات، والمشي على الأقدام إلى الجُمُعات، وإبلاغ الوضوء في المكاره، من فعل ذلك عاش بخير ومات بخير، وكان من خطيئته كيوم ولدته أمه. وقال: قل يا محمد إذا صليت: اللهم، إني أسألك الخيرات وترك المنكرات، وحبّ المساكين، وإذا أردت بعبادك فتنة أن تقبضني إليك غير مفتون». قال: «والدرجات بَذْلُ الطعام، وإفشاء السلام، والصلاة بالليل والناس نيام».
وقد تقدم في آخر سورة ص، عن معاذ نحوه. وقد رواه ابن جرير من وجه آخر عن ابن عباس، وفيه سياق آخر وزيادة غريبة فقال: حدثني أحمد بن عيسى التميمي، حدثني سليمان بن عُمَر بن سَيَّار، حدثني أبي، عن سعيد بن زَرْبِي، عن عمر بن سليمان، عن عطاء، عن ابن عباس قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «رأيت ربي في أحسن صورة فقال لي: يا محمد، هل تدري فيم يختصم الملأ الأعلى؟ فقلت: لا يا رب. فوضع يده بين كتفي فوجدت بَرْدَها بين ثدييّ، فعلمت ما في السموات والأرض، فقلت: يا رب، في الدرجات والكفارات، ونقل الأقدام إلى الجُمُعات، وانتظار الصلاة بعد الصلاة. فقلت: يا رب إنك اتخذت إبراهيم خليلا وكلمتَ موسى تكليما، وفعلت وفعلت، فقال: ألم أشرح لك صدرك؟ ألم أضع عنك وِزْرَك؟ ألم أفعل بك؟ ألم أفعل؟» قال: «فأفضى إلي بأشياء لم يؤذن لي أن أحدثكموها» قال: «فذاك قوله في كتابه: {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى. فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى. فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى. مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى}، فجعل نور بصري في فؤادي، فنظرت إليه بفؤادي». إسناده ضعيف.
وقد ذكر الحافظ ابن عساكر بسنده إلى هَبَّار بن الأسود، رضي الله عنه؛ أن عتبة بن أبي لهب لما خرج في تجارة إلى الشام قال لأهل مكة: اعلموا أني كافر بالذي دنا فتدلى. فبلغ قوله رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فقال: «سَلَّطَ الله عليه كلبا من كلابه». قال هبار: فكنت معهم، فنزلنا بأرض كثيرة الأسد، قال: فلقد رأيت الأسد جاء فجعل يشم رؤوس القوم واحدا واحدا، حتى تخطى إلى عتبة فاقتطع رأسه من بينهم.
وذكر ابن إسحاق وغيره في السيرة: أن ذلك كان بأرض الزرقاء، وقيل: بالسراة، وأنه خاف ليلتئذ، وأنهم جعلوه بينهم وناموا من حوله، فجاء الأسد فجعل يزأر، ثم تخطاهم إليه فضغم رأسه، لعنه الله.
وقوله: {وَلَقَدْ رَآهُ نزلَةً أُخْرَى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى}، هذه هي المرة الثانية التي رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها جبريل على صورته التي خلقه الله عليها، وكانت ليلة الإسراء. وقد قدمنا الأحاديث الواردة في الإسراء بطرقها وألفاظها في أول سورة سبحان بما أغنى عن إعادته هاهنا، وتقدم أن ابن عباس، رضي الله عنهما، كان يثبت الرؤية ليلة الإسراء، ويستشهد بهذه الآية. وتابعه جماعة من السلف والخلف، وقد خالفه جماعات من الصحابة، رضي الله عنهم، والتابعين وغيرهم.
وقال الإمام أحمد: حدثنا حسن بن موسى، حدثنا حماد بن سلمة، عن عاصم بن بَهْدَلَة، عن زر بن حُبَيْش، عن ابن مسعود في هذه الآية: {وَلَقَدْ رَآهُ نزلَةً أُخْرَى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى}، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «رأيت جبريل وله ستمائة جناح، ينتثر من ريشه التهاويل: الدرّ والياقوت». وهذا إسناد جيد قوي.
وقال أحمد أيضا: حدثنا يحيى بن آدم، حدثنا شريك، عن جامع بن أبي راشد، عن أبي وائل، عن عبد الله قال: «رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل في صورته وله ستمائة جناح، كل جناح منها قد سد الأفق: يسقط من جناحه من التهاويل والدر والياقوت ما الله به عليم». إسناده حسن أيضا.
وقال أحمد أيضا: حدثنا زيد بن الحُبَاب، حدثني حسين، حدثني عاصم بن بَهْدَلَة قال: سمعت شَقِيق بن سلمة يقول: سمعت ابن مسعود يقول قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: «رأيت جبريل على سدرة المنتهى وله ستمائة جناح» سألت عاصما عن الأجنحة فأبى أن يخبرني. قال: فأخبرني بعض أصحابه أن الجناح ما بين المشرق والمغرب. وهذا أيضا إسناد جيد.
وقال أحمد: حدثنا زيد بن الحباب، حدثنا حسين، حدثني عاصم بن بَهْدَلَة، حدثني شقيق قال: سمعت ابن مسعود يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أتاني جبريل، عليه السلام، في خُضر معلق به الدر». إسناده جيد أيضا.
وقال الإمام أحمد: حدثني يحيى عن إسماعيل، حدثنا عامر قال: أتى مسروقُ عائشة فقال: يا أم المؤمنين، هل رأى محمد صلى الله عليه وسلم ربه عز وجل؟ قالت: سبحان الله لقد قَفّ شعري لما قلت، أين أنت من ثلاث من حَدّثكهن فقد كذب: من حدثك أن محمدًا رأى ربه فقد كذب، ثم قرأت: {لا تُدْرِكُهُ الأبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأبْصَارَ} [الأنعام: 103]، {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} [الشورى: 51]، ومن أخبرك أنه يعلم ما في غد فقد كذب، ثم قرأت: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنزلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأرْحَامِ} الآية [لقمان: 34]، ومن أخبرك أن محمدا قد كتم، فقد كذب، ثم قرأت: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} [المائدة: 67]، ولكنه رأى جبريل في صورته مرتين.
وقال أحمد أيضا: حدثنا محمد بن أبي عدي، عن داود، عن الشعبي، عن مسروق قال: كنت عند عائشة فقلت: أليس الله يقول: {وَلَقَدْ رَآهُ بِالأفُقِ الْمُبِينِ} [التكوير: 23]، {وَلَقَدْ رَآهُ نزلَةً أُخْرَى} فقالت: أنا أول هذه الأمة سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها، فقال: «إنما ذاك جبريل». لم يره في صورته التي خلق عليها إلا مرتين، رآه منهبطا من السماء إلى الأرض، سادًّا عُظْمُ خلقه ما بين السماء والأرض.
أخرجاه في الصحيحين، من حديث الشعبي، به.
رواية أبي ذر، قال الإمام أحمد: حدثنا عفان، حدثنا همام، حدثنا قتادة، عن عبد الله بن شقيق قال: قلت لأبي ذر: لو رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم لسألته. قال: وما كنت تسأله؟ قال: كنت أسأله: هل رأى ربه، عز وجل؟ فقال: إني قد سألته فقال: «قد رأيته، نورا أنى أراه».
هكذا وقع في رواية الإمام أحمد، وقد أخرجه مسلم من طريقين بلفظين فقال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا وَكِيع، عن يزيد بن إبراهيم، عن قتادة، عن عبد الله بن شقيق، عن أبي ذر قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل رأيت ربك؟ فقال: «نور أنى أراه».
وقال: حدثنا محمد بن بشار، حدثنا معاذ بن هشام، حدثنا أبي، عن قتادة، عن عبد الله بن شقيق قال: قلت لأبي ذر: لو رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم لسألته. فقال: عن أي شيء كنت تسأله؟ قال: قلت: كنت أسأله: هل رأيت ربك؟ قال أبو ذر: قد سألت فقال: «رأيت نورا».
وقد حكى الخلال في علله أن الإمام أحمد سُئل عن هذا الحديث فقال: ما زلتُ منكرا له، وما أدري ما وجهه.
وقد قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا عمرو بن عون الواسطي، أخبرنا هُشَيْم، عن منصور، عن الحكم، عن إبراهيم، عن أبيه، عن أبي ذر قال: رآه بقلبه، ولم يره بعينه.
وحاول ابن خُزَيمة أن يدعي انقطاعه بين عبد الله بن شَقِيق وبين أبي ذر، وأما ابن الجوزي فتأوله على أن أبا ذر لعله سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الإسراء، فأجابه بما أجابه به، ولو سأله بعد الإسراء لأجابه بالإثبات. وهذا ضعيف جدا، فإن عائشة أم المؤمنين، رضي الله عنها، قد سألت عن ذلك بعد الإسراء، ولم يثبت لها الرؤية. ومن قال: إنه خاطبها على قدر عقلها، أو حاول تخطئتها فيما ذهبت إليه- كابن خُزيمة في كتاب التوحيد-، فإنه هو المخطئ، والله أعلم.
وقال النسائي: حدثنا يعقوب بن إبراهيم، حدثنا هشام، عن منصور، عن الحكم، عن يزيد بن شريك، عن أبي ذر قال: رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ربه بقلبه، ولم يره ببصره.
وقد ثبت في صحيح مسلم، عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن علي بن مُسْهِر، عن عبد الملك بن أبي سليمان، عن عطاء بن أبي رباح، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، أنه قال في قوله: {وَلَقَدْ رَآهُ نزلَةً أُخْرَى}، قال: رأى جبريل، عليه السلام.
وقال مجاهد في قوله: {وَلَقَدْ رَآهُ نزلَةً أُخْرَى} قال: رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل في صورته مرتين، وكذا قال قتادة والربيع بن أنس، وغيرهم.
وقوله تعالى: {إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى}: قد تقدم في أحاديث الإسراء أنه غشيتها الملائكة مثل الغِربان، وغشيها نور الرب، وغشيها ألوان ما أدري ما هي.
وقال الإمام أحمد: حدثنا مالك بن مِغْوَل، حدثنا الزبير بن عدي، عن طلحة، عن مرة، عن عبد الله- هو ابن مسعود- قال: لما أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم انتهي به إلى سدرة المنتهى، وهي في السماء السابعة، إليها ينتهي ما يعرج به من الأرض فيقبض منها، وإليها ينتهي ما يهبط من فوقها فيقبض منها، {إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى} قال: فراش من ذهب، قال: وأعطي رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثا: أعطي الصلوات الخمس، وأعطي خواتيم سورة البقرة، وغُفر لمن لا يشرك بالله شيئًا من أمته المُقحمات.
انفرد به مسلم.
وقال أبو جعفر الرازي، عن الربيع، عن أبي العالية، عن أبي هريرة أو غيره- شك أبو جعفر- قال: لما أسري برسول الله انتهى إلى السدرة، فقيل له: هذه السدرة قال: فغشيها نور الخلاق، وغشيتها الملائكة مثل الغربان حين يقعن على الشجر، قال: فكلمه عند ذلك، فقال له: سل.
وقال ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد: {إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى} قال: كان أغصان السدرة لؤلؤا وياقوتا وزبرجدا، فرآها محمد، ورأى ربه بقلبه.
وقال ابن زيد: قيل: يا رسول الله، أيّ شيء رأيت يغشى تلك السدرة؟ قال: «رأيتُ يغشاها فَرَاشٌ من ذهب، ورأيت على كل ورقة من ورقها مَلَكا قائما يسبح الله، عز وجل».
وقوله: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} قال ابن عباس: ما ذهب يمينا ولا شمالا {وَمَا طَغَى} ما جاوز ما أمر به.
وهذه صفة عظيمة في الثبات والطاعة، فإنه ما فعل إلا ما أمر به، ولا سأل فوق ما أعطي. وما أحسن ما قال الناظم:
رأَى جَنَّةَ المَأوَى وَمَا فَوْقَها وَلَو ** رَأى غَيرُهُ ما قَد رَآه لتَاهَا

وقوله: {لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى}، كقوله: {لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا} [طه: 23] أي: الدالة على قدرتنا وعظمتنا. وبهاتين الآيتين استدل من ذهب من أهل السنة أن الرؤية تلك الليلة لم تقع؛ لأنه قال: {لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى}، ولو كان رأى ربه لأخبر بذلك ولقال ذلك للناس، وقد تقدم تقرير ذلك في سورة سبحان وقد قال الإمام أحمد: حدثنا أبو النضر، حدثنا محمد بن طلحة، عن الوليد بن قيس، عن إسحاق بن أبي الكَهْتَلة قال محمد: أظنه عن ابن مسعود- أنه قال: إن محمدا لم ير جبريل في صورته إلا مرتين، أما مرة فإنه سأله أن يُريه نفسه في صورته، فأراه صورته فسد الأفق. وأما الأخرى فإنه صَعد معه حين صعد به. وقوله: {وَهُوَ بِالأفُقِ الأعْلَى. ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى. فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى. فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} قال: فلما أحسَّ جبريل ربه، عز وجل، عاد في صورته وسجد. فقوله: {وَلَقَدْ رَآهُ نزلَةً أُخْرَى. عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى. عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى. إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى. مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى. لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} قال: خَلْقَ جبريل عليه السلام.
هكذا رواه الإمام أحمد، وهو غريب.